مأساة السيّد مطر | مقطع

محيط دامٍ | GleeYJDN

'مأساة السيّد مطر' رواية من أربعة فصول - الولادة، الطفولة، الورطة، الموت – صدرت مؤخّرًا عن الدار الأهليّة للنشر والتوزيع، وتقع في 122 صفحة، وهي حاصلة على جائزة القطّان للكاتب الشابّ عام 2015.  لوحة الغلاف للفنّان النمساويّ إيغون شيلي وصمّمه زهير أبو شايب.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مقطعًا من الرواية بإذن من صاحبها.

.....

في البدء كانت رغبة الإنسان في السباحة. ومن ثمّ كان البحر؛ أزرق هادئًا تنعكس عليه أشعّة الشمس بسلاسة لبقة. ومن البحر جاء الموج، ومع الموج حضر السبّاحون إلى الشاطئ - يلوّن مئات العراة منهم، باللعب والضحك وبالأطياف الزاهية، المكان الذي يُطلق عليه الإسرائيليّون في حيفا اسم 'شاطئ دادو'. لكن في البدء في البدء، كانت رغبة الإنسان بالسباحة. وكان ذلك الإنسان، في البدء في البدء، طفلًا صغيرًا اسمه سيّد مطر، ونناديه اختصارًا: سيّد. 'ماما، أريد أن أسبح!' قال الصغير. وهكذا بدأنا.

إنّ المرّات الأولى في حياة الإنسان تكون مميّزة دائمًا؛ عندما تنجح في حلّ الكلمات المتقاطعة لأوّل مرّة، أو يتركك أهلك في البيت وحدك. حين تفهم، لأوّل مرّة، أنّه لا بدّ لك من التوقّف فورًا عن قراءة كتب التنمية البشريّة، أو حين تجلس في السينما، أو حين يموت أوّل حيوان أليف ربّيته في حياتك. المرّات الأولى مختلفة دائمًا، ولكن هناك شيئًا آخر لا يمكن، رغم التشابه، حمله في الكفّ ذاتها، وهو أن يرغب الإنسان، لأوّل مرّة في حياته، في أن يسبح في البحر.

***

كانت ماما تجلس عند الرمل وتراقبه كما يُراقَب حبلٌ من الليف والزيت يلتفّ حول عنق. وما أن هبّ باتّجاهها يطلب النزول إلى الماء حتّى تنبّهت هلعًا، وأخذت تكيل له أسبابًا تحول دون ذلك. قالت إنّ الماء بارد جدًّا. إنّ البرد يموِّت. قالت إنّ هؤلاء السبّاحين اليهود يمكنهم أن يغطّسوا رأسه في الماء حتّى يغرق. إنّ الأمواج عالية تصل السماء، وإنّ الماء إذا ما اختلط بالسماء راحت الأرض وما عليها ضحيّة. ووسط جرف ثرثرتها ضبطت الأمّ نفسها متلبّسة تحكي قصّة حوت مرعب واسمه موبي ديك، فاستغفرت ربّها ودعت سيّد الصغير بنبرة عالية ليجلس في ظلّها، وراحت تقرأ على رأسه آيات من الذكر الحكيم: 'وجاوزنا ببني إسرائيل البحر'... صدق الله العظيم.

لم يفهم سيّد الصغير ما تقوله ماما، لكنّه كان ينظر إلى جلبابها، ورآها مختلفة عن جميع أهل الشاطئ فصدّقها. تراجع عن رغبة السباحة لدقائق، وركن يلعب تحت ظلّها بأدوات الرمل الصغيرة الملوّنة: دلو بلاستيكيّ أزرق صغير لا يتّسع جوفه لإغراق رأس سجين. مشط للرمل، زاهي الخُضرة، قد يُفيد مرضى الجرب، وكفّ أحمر للحفر، يستغرق حفر قبر متوسّط الحجم بواسطته أسبوعًا واحدًا على الأقلّ.

حاول سيّد الصغير أن يبني من الرمل قصورًا ولم ينجح، فكان منه أن بنى بيتًا صغيرًا دقيق التعرّجات، زيّن سقفه بالأصداف وجدرانه بقشور المكسّرات. ثمّ وقف أمام البحر بتباهٍ، يسند يديه حول خصره بتحدٍّ، ثمّ قال للبحر: 'هاه، ها قد بنيت بيتًا، ما حاجتي بك؟ أصلًا البحر بارد!'

التفت إلى أمّه متفاخرًا وهي تجلس بوقار يميّزها عن صخب روّاد البحر. عاد ينظر إلى البحر طويلًا حتّى رجعت إلى مخيّلته صورة رآها في التلفزيون - صورة لكائن عملاق اسمه غوّاصة. كانت غوّاصة سوداء جميلة، صُنعت في بلد اسمه ألمانيا، ميزتها الخاصّة والمثيرة للدهشة أنّها تقدر على حمل رؤوس نوويّة. على شاشة التلفزيون، رأى سيّد الصغير داخل الغوّاصة رجلًا أشقر كبير البنية مهيبًا ويلبس زيًّا جميلًا أبيض. وكان سيّد في تلك اللحظة يتخيّل الغوّاصة الجميلة تنام في أعماق البحر المستيقظ أمامه. لم يكن ما فوق سطح البحر يثير الطفل قدر ما يثيره ما تحته، أمّا موبي ديك الذي تحدّثت عنه ماما، فلم يكن يستطيع تخيّله إلّا على صورة تلك الغوّاصة التي رآها في التلفزيون.

تنبّه الطفل وتذكّر بيته الصغير، نظر إليه وشدّ ظهره بانتماء وكبرياء ثمّ تطلّع بالبحر وصاح به: 'انظر بيتي. هاه!'... 'وعصاة!' أجابه البحر. وتدفّقت موجة وقحة أغرقت البيت الصغير وغزت الشاطئ حتّى بللت ثوب والدته. فرّ الطفل إلى حضنها، وقد انتبه إلى أنّ الماء قد مسّها! يا الله، مسّ الماء ماما. ارتمى فوق فخذيها وحكّ رأسه خائفًا منتفضًا بأزرار جلبابها التي انفتحت مباغتةً، وقبل أن تغلقه، كان الطفل الذي لم يُفطم بعد قد مدّ يديه الملطّختين بالرمل، أخرج ثديها وأخذ يرضع منه. وابتعد الطفل بالتفكير وهو يرضع من ثدي أمّه. أحسّ بشيء من الريبة: لقد مسّها الماء ولم تمت، لم يبتلعها البحر كما حكت. هذا غريب. وأيضًا، لقد أخبرته ماما عن موبي ديك، وعن النبي يونس، لكنّها لم تذكر أيّ شيء عن الغوّاصة وقبطانها الألمانيّ، هذا مدعًى للشكّ... هل تخبّئ عنه الماما شيئًا ما في البحر؟ قال يجرّبها - رفع سيّد عينيه إلى أمّه، نظر إليها بتربّص خبيث ممتحن، ثمّ عضّ حلمتها بأسنانه الحليب، عضّة جعلت رُقيّة تطلق تأوّهًا حادًّا أفزع الطفل، شهقة، كأنّها واحدة من أهل الشاطئ الصاخبين، وتذوّق لسانه قطرة من دم ماما. 'ماما الكذّابة' قال الطفل عن امرأة من لحم ودم.

في تلك اللحظة، قام سيّد الصغير من حضنها ساخطًا حانقًا، انتزع منديلها المرقّط بأحرف عربيّة سوداء عن رأسها بسرعة لم تمكّنها من منعه، وركض به باتّجاه البحر. كان فمه يسيل لعابًا بلون الدم، وكان يحفن الرمل في المنديل ثمّ يذره في الهواء وهو يركض وسط هدير الموج المعذّب عند الشاطئ. وكانت رُقيّة، لأوّل مرّة في حياتها، ترى الخوف في حفنة من رمل.

ركض الولد. وفي المرّة الأخيرة التي حاول فيها أن ينحني ليحفن الرمل، تعثّر وهوى في ماء البحر، اصطدم وجهه بوجه الماء، غاب فيه واختفى. وفي تلك اللحظة التي صفع وجهه فيها الموج، لأوّل مرّة في حياته، هزّ انفجار هائل في أسس البحر. انفجار حوّل الماء أحمر مضطّربًا هائجًا على لهب من الكبريت، تطفو عليه جثث السبّاحين بسلاسة لبقة.

 

مجد كيّال

 

وُلد في حيفا عام 1990، لعائلة مهجّرة من قرية البروة. درس الفلسفة والعلوم السياسيّة في الجامعة العبريّة في القدس، ويكتب لمُلحق 'السفير العربيّ' الصادر في بيروت. نشر نصوصًا سياسيّة وأدبيّة وبحثيّة في عدد من الإصدارات والصحف، إضافة إلى مدوّنته الشخصيّة التي يكتبها منذ عام 2010. حصلت روايته الأولى 'مأساة السيّد مطر' على جائزة مؤسّسة عبد المحسن القطّان للكاتب الشابّ عام 2015.